عجبت لتعليقات أخي وصديقي الأستاذ فهمي هويدي، الذي أعرفه من قديم، فقد التقينا في السجن الحربي، الذي ضمني وإياه وآخرين، كنت متخرجا في كلية أصول الدين وتخصص التدريس، من جامعة الأزهر، وكان هو طالبا في كلية الحقوق جامعة القاهرة، في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، وما بعدها في مصر، وفي الكويت، وفي بلاد الخليج، وبلاد العرب، وديار الإسلام، وبلاد الغرب.
وأعرف منطلقاته الإسلامية، وأهدافه الإسلامية، وثقافته الإسلامية، التي بدأها في كلية الحقوق، ودرس الفقه والمعاملات والأصول على شيوخنا، شيوخ الشريعة الكبار: خلاف، وأبي زهرة، والخفيف. وتعرف في جوه الإخواني على الشيخ الغزالي وإخوانه وتلاميذه، وقرأ للإسلاميين من الفقهاء والمفكرين في كثير من بلادنا العربية والإسلامية، من أمثال المودودي والندوي وأمثالهما. وكان له خلال العقود الماضية وقفات علمية وفكرية وسياسية، نصرت الحق وأهله، ووقفت في وجه الباطل وأحزابه، ولم يبالِ بمن خاصمهم في سبيل الله. وأشهد أنه كان بمثابة كتيبة تدافع عن الحق، وتذود عن حياضه وأهله، بما لم يتهيأ لكثيرين.
علّق صديقي فهمي على المتحدثين باسم الدين والشريعة عن الانتخابات في مصر، وعن السيسي وأمثاله، في مقالة بعنوان: (أهل دين أم هواة سياسة).
وكان مما قال: (تابعنا خلال الأيام الأخيرة سيل الفتاوى، التي كان أغلبها داعيا إلى الإقبال على التصويت، وحذرت المقاطعين من غضب الله. وبعضها أعلن انحيازه إلى المشير السيسي «حبيب الله» بعدما أضاءت وجهه آثار السجود التي رصعت جبهته، في حين أن حمدين صباحي لم ينل تلك المرتبة.
الذين أفتوا بحرمة التصويت قالوا: إنه تأييد لمنكر تمثل في الانقلاب على الحاكم الشرعي. والذين قالوا بضرورة التصويت استدعوا الحديث النبوي الذي اعتبر من مات وليست في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية، كما أنهم استدعوا النص القرآني الذي يحذر المؤمنين من كتمان الشهادة.
ورغم أنني لست من أهل الفقه فإن معلوماتي المتواضعة تسمح لي برفض الرأيين لأننا بصدد اجتهاد سياسي لا يخضع بالضرورة لمعايير الحل والحرمة التي تتطلب نصا أو قياسا، ولكنه محكوم بزاوية النظر للحديث. فمن اقتنع بأن المصلحة في المقاطعة فله أجره، ومن وجد أن المصلحة في المشاركة فله أيضا أجره. وهذا أمر لا علاقة له بالبيعة، كما أن الامتناع عن التصويت شهادة سلبية والإقدام على التصويت قبولا أو رفضا من قبيل الشهادة الإيجابية).
قرأت هذه المقالة، وتعجبت من صدورها من أمثال فهمي وإخوانه، وكأننا في انتخاب عادي، يدعى الناس فيه للذهاب للانتخاب. ولو كان هذا صحيحا، لكنا أول من يؤيده، ويؤكد وجوبه شرعا على كل مسلم؛ لأنه مطلوب للشهادة، وشهادته مهمة، لمن يعتقد أنه أحق من غيره، فهي شهادة حق، وغيرها شهادة زور، وهذا ما جهرت به عندما كانت انتخابات حرة، يمثل الشعب فيها أطياف من المرشحين الوطنيين، ويومها، لم يفتِ أحد بوجوب انتخاب شخص معين، وإنما كانت الفتوى باختيار الأصلح، وقد كنت أرى وقتها الأصلح الدكتور أبو الفتوح، خلافا للإخوان، وكان ذلك اختلافا في الاجتهاد لا يضر، ما داموا جميعا يسيرون على درب الثورة.
وهذا بخلاف الانتخاب الحالي، الذي هو مهزلة حقا، لا ينبغي أن يذكر فيها المشايخ المسوقون بالسوط والعصا، ما يذكر في الانتخابات العادية، فهذا تحريف وتزوير.
وهل ينطبق ما قاله الأستاذ هويدي على الانتخابات المصرية،على انتخاب بشار الأسد في سوريا، وأن المسألة لا تعدو كونها اجتهادا سياسيا؟!
وهل يعارض الأستاذ فهمي هويدي في أن المشاركة في تلك الانتخابات مشاركة في تأييد منكر الانقلاب، ومحاولة لإضفاء الشرعية عليه؟!
ومن العجيب أن الغالبية من الشعب المصري قد أدرك ما غاب عن نخبته — ومنها للأسف الأستاذ فهمي هويدي — واستشعر الضمير الديني في مصر بمسلميها ومسيحييها، أن المشاركة في مثل هذه الانتخابات هي نوع من المشاركة في الظلم، فبدت اللجان الانتخابية خاوية على عروشها!
وقد سوَّى أخونا فهمي بين العلماء والجاهلين، وبين الطيبين والخبيثين، وبين أصحاب الحق وأتباع الهوى، واعتبر كلا من الفريقين يقول من رأسه ما يشتهي، وقد قال الله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة:100].
كيف يسوي فهمي بين الذين اتخذوا الدين بضاعة، يبيعونها لمن يدفع لهم أكثر، ولو بمجرد الوعود الكاذبة، التي قال عنها كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيدها إلا الأباطيل!
فلا يَغُرَّنْك ما مَنَّتْ وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل
وهم يتزلفون أكثر لمن يحرمهم، ومن يقمعهم ويهينهم، وإن لم يدفع لهم ولم يعدهم.
كيف يسوِّي بين هؤلاء وبين آلاف العلماء ممن كان الدين روح حياتهم، وحياة روحهم.. هو العقل الذي به يفكرون، والقلب الذي به يطمئنون، والنور الذي به يهتدون؟!
كيف يسوِّي بين قوم دعاهم الحاكم، أو من يظنون أنه سيكون الحاكم، وأنه الذي بيده القوة والأمر والنهي، فلبوا النداء وقالوا: سمعنا وأطعنا. وانضموا هم والبابا تواضروس حول الحاكم المرتقب،هذا عن يمينه، وهذا عن شماله، يقول فيسمعون، ويأمر فيطيعون، بحجة ارتكاب أخف الضررين! وهل الضرر الأكبر إلا في عودة العسكر؟!لم يستندوا إلى آية قرآنية، ولا إلى حديث نبوي، ولكن إلى قاعدة فقهية، وضعوها في غير موضعها.
من الذي هيأ الضرر للناس؟ هم الذين اختاروه وأوجبوه، ما أوجبه الشرع، ولا أوجبه الواقع، ولكن هم أوجبوه مختارين، ليختاروا له القاعدة الفقهية، منفذا له، ومخرجًا منه.
لم يقل له شيخ الأزهر: يا سيسي هذا أمر حرام، لا يجوز نقض ما عاهدت الله عليه، وأنت تقسم أمام الرئيس المنتخب، قسم توليتك وزارة الدفاع، وقد سمعناه بملء آذاننا، وأبصرناه بعيوننا. وواجب عليك السمع والطاعة له، بحكم الدستور، وبحكم القرآن، كما قال الله تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء:59]. أمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر منا، فقال:(منكم) وليس من غيرنا!
وكما في الحديث المتفق عليه، عن ابن عمر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" رواه البخاري ومسلم. والنصوص هنا كثيرة لا تحتاج إلى إيراد.
فهل أمركم محمد مرسي — أيها السادة — بمعصية، أم أنتم الذين عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون؟!
كل أقوال المذاهب، وكل أقوال العلماء؛ بل كل إجماع الأمة: تلزمكم بالوقوف مع النظام الشرعي والدستوري، الذي أقامته الأمة بعد ثورتها التاريخية المباركة، التي أجمع عليها شعبها كله: بمسلميه وأقباطه، برجاله ونسائه، بأزهره وجامعاته، بشبابه وشيوخه، بفلاحيه وعماله، بنخبه وجماهيره، بمتعلميه وأمييه، وقدمت الأمة من خيرة أبنائها فداء لهذه الثورة، التي لم يؤخذ لشهدائها وأبطالها من أهل مصر حقوقهم حتى الآن.
فمن أباح لهؤلاء الذين صبروا على الظلم والفساد، والطغيان والاستبداد، ستين سنة، حتى إذا قامت الثورة لتقيم على أنقاضه حياة ديمقراطية مدنية شورية، تسلم زمامها للشعب وممثليه، ثم سرعان ما تآمروا عليه من الشهر الأول، وكادوا له، وتربصوا به، ولم يتعاونوا معه.
كيف لم يصبروا عدة أشهر على هذا الرئيس الحاصل على أعلى الشهادات، الصائم القائم، الحافظ للقرآن، الذي يخشى الله تعالى، ويرفض أن يمد يده إلى أموال الشعب، وبقي في منزله المستأجر؟!
كيف خرجتم عليه، واجترأتم على خلعه، وهو رئيس البلاد المنتخب؟ ولماذا لم تصبروا عليه؟ وهل يمكن أن تداوى جراحات ستين عاما في أيام أو أشهر قليلة، وهي تحتاج إلى سنوات وسنوات؟ والأخطاء في النظام الديمقراطي لا تعالج إلا بالأدوات الديمقراطية، لا بالانقلابات العسكرية.
كيف يطاع من يرفض نظاما قائما، رضيه الشعب، وضحى في سبيله، بخطوة بهلوانية من وزير خان أمانته، ونقض عهده مع رئيسه، وكذب على الله وعلى الناس، وقطع ما أمر الله به أن يوصل؟! وكيف قبل أن تصل إليه مليارات دول أخرى، لم توافق شعوبها بحال من الأحوال على تهريب هذه المليارات، من وراء حجب كثيفة، وتغطيات ثقيلة، ليصرفها هؤلاء الحكام الظلمة فيما لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض؟!
ثم قام هذا الشيخ الأزهري الكبير الذي لم يتخصص في الفقه، ولكنه تخصص في العقيدة والفلسفة، وهو أبعد ما يكون عن العقلية الفقهية والأصولية والشرعية، لا بالدراسة، ولا بالهواية. هو ومن يسير في ركابه، ويغني على ألحانه، لا يقول: قال الله، وقال رسوله، بل بارتكاب أخف الضررين. ومن ألزمك بأي منهما؟!
ويقول قرينه لصاحب السيف والمدفع: اضرب في المليان، واقتل هؤلاء. ويسرف في إباحة الدماء والأعراض والأموال، التي حرمها الله ورسوله.
وهذا المتملق الأحمق، الذي تكشف كتاباته وكلماته عن الهوس والانحدار الفكري والعلمي والأخلاقي لمنتسبي الأزهر، الذي هرم وأحيل على التقاعد، عندما ادعى أن الله بعث السيسي القاتل، وزميله المساعد محمد إبراهيم — وزير الداخلية — رسولين من الله!! لقد هرم الأزهر، ولكن شبابه وشاباته، وشباب مصر كلها، أثبتوا للعالم أنهم بخير.
لقد دفع الشعب لجيشه من أمواله وعصارة رزقه، لكي يسلح نفسه للدفاع عن بلده، وحمايته من الأعداء، لا ليضرب الوطنيين البرآء، المخلصين القانتين، الذين رأت الدنيا ورأى العالم، كيف تعبدوا لله في رمضان، صائمين نهارهم، قائمين ليلهم، فذبحوا منهم الألوف، وجرحوا منهم أضعافهم، واعتقلوا أضعاف أضعافهم، ولم يكن بأيديهم مدفع ولا سيف ولا سكين ولا عصا، ولا حتى حجارة مما كان يحمله أطفال فلسطين.
كيف نسوي يا أستاذ فهمي هؤلاء الذين خلت رؤوسهم من العلم، وقلوبهم من التقوى، ووجوههم من الحياء، وألسنتهم من الصدق، ممن قال الله في أمثالهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة:204 — 206].
هؤلاء الذين يقيمون على الباطل المحض، والافتراء المكشوف، كيف تشبههم بالعلماء الذين شهدتهم وسمعتهم في رابعة والنهضة وغيرهما،الذين اتخذوا شعارهم قوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب:39].
وتقول: إن جميعهم يتكلمون باجتهادهم.. كلٌّ ينطلق من المصلحة، وكل يقول مما عنده! من قال هذا يا أستاذ فهمي؟! (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ) [فاطر:19 — 20]
والله الذي لا إله إلا هو ما انطلقنا في هذه المعركة من أول ما بدأت إلا من كتاب ربنا، وسنة نبينا، ومن منهج أئمتنا، ومن إجماع علمائنا، ومن تراث أمتنا.
واقرأ ما كتبته منذ قيام الثورة، في يومها الثالث، وقبلها ثورة تونس، وبعدها ثورة ليبيا من أول يوم، وثورة اليمن، وبعدها ثورة سوريا.
انظر كل بياناتي وفتاواي، وخطبي ومقالاتي وكلماتي، كذا كلمات كثير من العلماءالمخلصين، من أولها إلى آخرها، فلن ترى فيها إلا فقها شرعيا ربانيا، مستمدا من شريعة الأمة، ومن قرآنها، وسنة نبيها، ومن مقولات علمائها وفقهائها.
نحن نعوذ بالله، أن ندعو الأمة إلى مجرد أفكار بشرية، مأخوذة من رؤوسنا، أو وحي تجاربنا!
ارجع إلى ما كتبت يا أستاذ فهمي.. وقد أصدرت كتابين: كتابا في الثورة الأولى (ثورة 25 يناير)، صدر في مصر، وآخر في الثورة المضادة: (ردود علمية على شيخ الأزهر ومفتي العسكر)، صدر في الأردن، وسيصدر عن قريب في مصر. وسترى أي الفريقين أهدى سبيلا، وأقوم دليلا، وأصدق قيلا.
الآراء
دانا
15 خرداد 1393 - 06:08جزی لله شیخنا الحبیب